
على قمم غزّة نكتب
سمير باكير يكتب –
يُسجَّل في التقاويم باسم السابع من أكتوبر، لكن في تاريخ الإنسانية والبشرية هذا اليوم أوسعُ من اسمٍ واحد. قبل عامين في مثل هذا اليوم، قام شعب غزة — الذي تحمّل سنوات من الحصار والمعاناة وكان ينعى قرناً من احتلال أرضهِ فلسطين — بعمليةٍ كبيرةٍ دخلت التاريخ الفلسطيني وربما تاريخَ العالم العربي بلا سابقةٍ مثيلة. سكانُ غزة بعملياتٍ عبر الحدود هزّوا الهيمنةَ العسكريةَ والاستخباراتيةَ لإسرائيل وكشَفوا زيفَها. منذ ذلك اليوم وإلى الآن حولت إسرائيل وحلفاؤها كلَّ شبرٍ من أرض غزة إلى خرابٍ، وذبحوا أو شردوا كلَّ ساكنٍ فيها، آمِدين أن يطهروا من الخريطة أرضاً صنعت عودةَ انتباهِ العالم إلى فلسطين. مرّت سنتان، واليوم نقف نحنُ أمةً مسلمةً وعربيةً على القممِ نرقبُ غزّة التي لم تَعُد اسماً فحسب، بل أسطورةٌ، رمزٌ للإنسانيةِ والكرامة. اليوم حيثما ذُكِرَ اسمُها في العالم صار معيارُ الإنسانية ومدى محبّة الناس يقاس بمدى تأييدهم لغزة وازدرائهم لإسرائيل.
حتى نجومُ هوليوود والمهرجاناتُ مثل يوروفيجن وغيرها كَسَرت صمتَها، وصرخت باسمِ غزة بلا خوفٍ من الطرد أو التأنيب من السياسيين، وشاركت في ركابِ «سفينةِ الحرية». على قممِ غزة، ونحن جالسون هناك، من الجيد أن ندوّنَ الدروسَ التي تعلمناها خلال سنتين لنجعلها ملكةَ أذهاننا. في السطر الأول من درسنا يجب أن نكتب: هذه غزة، أرضٌ أعادت للعربِ والأمةِ الإسلاميةِ العِزّةَ والكرامةَ بوقوفها وبدَمِها. هنا غزّةُ التي أعادت لمفهوم الشرفِ والمظلوميةِ معناها، وأثبتت أن الإنسان لا يبيعُ شرفَه ووطنيةَه مقابل جرعةِ ماءٍ أو قطعةِ خبز.
لنكتب ونكرّر أن جيشَ إسرائيل المغرور بملياراتِ الدولارات من المساعداتِ الخارجية لم يستطع أن يقهرَ حُفاةً كانت سلاحَهم الإيمانُ ونورُ اليقينِ بالنصر. لنكتب أن إسرائيل لم تستطع تحريرَ رهائنها، ولم تَفْنِ حماسَ، ولم تَملِك غزة — لا لأنّها لم تُرِد، بل لأنها لم تستطع؛ ولو استطاعت لكانت فعلت مرّاتٍ ومرّات. لنكتب أنَ إسرائيلَ بأمْراضِ بَتْرِها من باتريوت إلى «ثاد» ومن «القبة الحديدية» إلى «منجل داوود» لم تَقْوَ على صواريخِ وطائراتٍ من دون طيارِ قادمةٍ من إيرانَ واليمنِ ولبنان، فاضطرت أن تلتمسَ العونَ من أمريكا وشريكها القاتلِ ترامب.
على قممِ جبالِ غزة نكتب ونحكمُ لِيَعْلَمَ القادِرونَ اللاحقونَ أن جنونَ ذبحِ إسرائيل لا حدودَ له، وأن لا تفاوضَ ولا ابتسامةً تُجدِيها معه؛ فَيَداه تلطّختا بالدمِ كلَّ يومٍ، ونارُ مجازره لا تنطفئ. إسرائيلُ لا تفهمُ إلّا لغةَ القوةِ. يا أمةَ المسلمينِ ويا حكّامَ العربِ اعْلَموا أن إسرائيلَ تقطعُ اليدَ الممدودةَ للصداقةِ، لأنها تطمحُ من النيلِ إلى الفراتِ وتريدُ محوَ كلِّ إنسانية.
على قممِ جبالِ غزة نكتب أن أوروباَ وأمريكا وادّعاؤُهم مدافعونَ عن حقوقِ الإنسانِ ليسوا بقولِهم، بل بأفعالِهم؛ فهم بالكلام يتحدثون عن الإنسانية، وبالعمل يزوّدون إسرائيلَ بالسلاحِ لقتلِ أهلِ غزة. هم شركاءُ دمِ الأطفالِ الممزّقين، وشركاءُ دموعِ الأمهاتِ والآباءِ الذين طُوِيَتْ عليهم حفَرُ الحزنِ حتى لم تَعُد لهم قوّةٌ لشدِّ أواصرَ أكفانِ أجسادِهم الممزقة. على قممِ غزة نكتب لتبقى شهادةً للجميع أن الأمم المتحدةَ ومجلسَ حقوقِ الإنسانِ غُرفٌ ديكوريّةٌ بلا جدوى، فلم يصدروا حتى قراراً يواسي غزة أو يُدِينُ جرائمَ إسرائيلَ.
لنكتب لِيَعْلَمَ القادمونَ أن فلسطينَ أصبحت عالميةً، ليس بسوى التنازل أو بدعاوى حقوقِ الإنسان، ولا بقوافلِ طعامٍ ودواءٍ فحسب، بل بدماءِ أطفالٍ سالت على الأرضِ وبأطفالٍ وُلدوا فلا بُقِيَ في عيونِهم ما يبكي، وبأمّهاتٍ لم يعد لديهنّ قوةٌ للبكاء، وبآباءٍ لا يطيقون أن يضغطوا أصابعَهم خجلاً من كفوفٍ خاوية. على قممِ غزة نكتب: غزةُ انتصرت وبقيت وستبقى، إحتراماً لدماءِ أطفالٍ لم يسمع أحدٌ صراخَهم، ولم يمدّ أحدٌ يدَ المساعدةِ إليهم؛ لأبناءٍ صغارٍ ماتوا سريعاً ليحافظوا على حمى الدار، وللبناتِ اللواتي صِرنَ بسرعةٍ أمّهاتٍ يحتضنّ أطفالاً ذُبِحَتْ أجسادُهم بالدم.